Wednesday, September 29, 2010

أثر القرآن الكريم في اللغة العربية


أثر القرآن الكريم في اللغة العربية
 

الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:‏

فإن حديثنا عن القرآن الكريم وأثره في اللغة العربية، حديث الشيء عن ذاته، فالقرآن الكريم عربي المبنى فصيح المعنى، وقد اختار الله تعالى لكتابه أفصح اللغات فقال تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً( [الزخرف: 3] وقال تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين( [الشعراء: 195]، وقال تعالى: (قرآناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون( [الزمر: 28].‏

ومن الراجح أن اللغة العربية هي أقدم اللغات على الإطلاق، كما بينت الدراسات الحديثة وأنها اللغة التي علّم الله بها آدم الأسماء كلها، وهي لغة أهل الجنة كما ورد في الحديث: "أَحِبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي".‏

ومن هذا المنطلق نجد الثعالبي يعبر عن هذه اللغة أبلغ تعبير فيقول في مقدمة كتابه الشهير فقه اللغة وسرّ العربية: "من أحب الله تعالى، أحب رسوله محمداً (، ومن أحب الرسول العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان، وآتاه حسن سريرة فيه، واعتقد أن محمداً ( خير الرسل، والعرب خير الأمم، والعربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، إذ هي أداة العلم، ومفتاح التفقه في الدين، وسبب إصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن في الإحاطة بخصائصها، والوقوف على مجاريها ومصارفها، والتبحر في جلائلها ودقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة التي هي عمدة الإيمان، لكفى بها فضلاً يحسن أثره، ويطيب في الدارين ثمره" .‏

ومن هنا اكتسبت اللغة العربية القداسة النورانية والخلود السرمدي، قال الله تعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون( [الحجر: 9] فبحفظ الله تعالى كتابه يحفظ اللغة العربية، فهي باقية ببقائه إلى يوم الدين، ويمكننا ذكر أهم ما أحدثه القرآن الكريم في اللغة العربية من آثار فيما يلي:‏

1-المحافظة على اللغة العربية من الضياع:

ذكرت فيما سبق أن السر الكامن وراء خلود اللغة والحفاظ عليها من الاندثار هو القرآن الكريم بما كان له من أثر بالغ في حياة الأمة العربية، وتحويلها من أمة تائهة إلى أمة عزيزة قوية بتمسكها بهذا الكتاب الذي صقل نفوسهم، وهذب طباعهم، وطهر عقولهم من رجس الوثنية وعطن الجاهلية، وألف بين قلوبهم وجمعهم على كلمة واحدة توحدت فيها غاياتهم، وبذلوا من أجلها مهجهم وأرواحهم، ورفع من بينهم الظلم والاستعباد، ونزع من صدورهم الإحن والضغائن والأحقاد، فقد كان القرآن الكريم ولا يزال كالطود الشامخ يتحدى كل المؤثرات والمؤامرات التي حيكت وتحاك ضد لغة القرآن، يدافع عنها، ويذود عن حياضها، يقرع أسماعهم صباح مساء، وليل نهار بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين( [البقرة: 23 –24]، وقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً( [الإسراء: 88] فلما كان القرآن الكريم بهذه المنزلة لا جرم أن المسلمين أقبلوا عليه ودافعوا عنه، واعتبروا أن كل عدوان على القرآن هو عدوان على اللغة العربية، وأن النيل من اللغة العربية هو نيل من القرآن، ولذلك فإن بقاء اللغة العربية إلى اليوم وإلى ما شاء الله راجع إلى الدفاع عن القرآن، لأن الدفاع عنه –لكونه أصل الدين ومستقى العقيدة- يستتبع الدفاع عنها لأنها السبيل إلى فهمه، بل لأنها السبيل إلى الإيمان بأن الإسلام دين الله، وأن القرآن من عند الله لا من وضع أحد.‏

يقول الباقوري: "ولو فرضت أنه نزل كما نزل غيره من الكتب المقدسة، حكماً وأحكاماً، وأمراً ونهياً، ووعداً ووعيداً، ولم يتحر هذا الأسلوب الذي جاء به، فلم يعن الناس بلفظه ولم ينظروا إليه قولاً فصلاً، وبياناً شافياً، وبلاغة معجزة، لكان من الممكن أن تزول هذه اللغة بعد أن يضعف العنصر الذي يتعصب لها على أنها لغة قومية، ومن ذلك تضعف هي وتتراجع حتى تعود لغة أثرية.‏

وفي اللغة العبرية ما يؤكد هذا، فإنها –وهي لغة كتاب مقدس –صارت إلى ذمة التاريخ، ولو أن التوراة جاءت كما جاء القرآن فتحدت اليهود على النحو القرآني لاحتفظوا بلغتهم لأن في ذلك احتفاظاً بمعجزة نبيهم، فكان ممكناً أن نرى لغة موسى عليه السلام" .‏

ويبدو هذا الأمر واضحاً لمن تتبع اللغات وما تعرضت له من انقسام وانشطار واندثار بعد أن كانت لغة عالمية محكية وصناعية، وليست اللغة اللاتينية عنا ببعيدة فقد كانت لغة وحضارة وسطوة وقوة فبقيت أثراً بعد عين.‏

وعلى العكس من ذلك فإن اللغة العربية لم تكن لها هذه القوة وهذه المنعة، وليست لغة حضارة وصناعة، إنما كانت لغة صحراء وأمية، بكل ما تفرضه بيئة الصحراء من بساطة وضيق عيش، وبعد عن العلوم والمعارف، ثم إن العرب قد تعرضوا للحروب والدمار كغيرهم، ولكن ما زالت لغتهم قوية ساطعة تنبض بالحيوية والنشاط، وما ذلك إلا بفضل القرآن الكريم، الذي تكفل الله بحفظه، فحفظ به اللغة التي نزلت به، ولم يتكفل بحفظ غيره من الكتب المقدسة فبادت اللغة التي نزلت فيها واندثرت.‏

2-تقوية اللغة والرقي بها نحو الكمال:

منح القرآن الكريم اللغة العربية قوة ورقياً ما كانت لتصل إليه لولا القرآن الكريم، بما وهبها الله من المعاني الفياضة، والألفاظ المتطورة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، فأصبحت بذلك محط جميع الأنظار، والاقتباس منها مناط العز والفخار، وغدت اللغة العربية تتألق وتتباهى على غيرها من اللغات بما حازت عليه من محاسن الجمال وأنواع الكمال، وفي هذا يقول العلاّمة الرافعي رحمه الله: "نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة، وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك، لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها، فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراءة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول بها من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحويل التركيب إلى التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا يقضى العجب منه لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب بخاصته، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود لأنها هي لغتهم التي يعرفونها ولكن في جزالة لم يمضغ لها شيح ولا قيصوم".‏

هذا ما عبر به إمام العربية الرافعي رحمه الله، وليس هو فحسب، بل اعترف أعداء العربية من المستشرقين وغيرهم بقوة اللغة العربية وحيويتها وسرعة انتشارها، فيقول "أرنست رينان": "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى..." ‏

ويقول جورج سارنوت: "ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول (() مرونة جعلتها قادرة على أن تدون الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللغة العربية إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد".‏

ويقول بروكلمان: "بفضل القرآن بلغت العربية من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعاً مؤمنون بأن اللغة العربية هي وحدها اللسان الذي أحل لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت اللغة العربية منذ زمان طويل رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطلق بها شعوب إسلامية" (8).‏

ومما لا شك فيه أن اعتراف أمثال هؤلاء، لا يقوي من وضع اللغة العربية أو يأخذ بيدها إلى الرفعة، وإنما ذكرنا أقوالهم لنبين أن الفضل ما شهدت به الأعداء.‏

ويأتي العلاّمة الفراهي الهندي (9) -إمام العربية في عصره –ليقول عن اللغة العربية: "أعلم أن كلام العرب كله نمط أعلى من كلام الأمم الذي تعودت به، لأنهم مولعون برزانة القول وتهذيبه من أمور سخيفة، فهم يجردون كلامهم من كل رابطة، ولو فعلوا ذلك كان عاراً على السامع، فإنه يفهم الروابط بذكائه، فلذلك كثر فيهم الحذف..." (10).‏

3-توحيد لهجات اللغة العربية وتخليصها من اللهجات القبلية الكثيرة:

من المعلوم أن لجهات اللغة العربية كانت مختلفة، تحتوي على الفصيح والأفصح، والرديء والمستكره، وكانت القبائل العربية معتدة بلهجتها حتى إن القرآن الكريم نزل على سبعة أحرف من أجل التخفيف على العرب في قراءته وتلاوته، ولا شكّ أن لغات العرب متفاوتة في الفصاحة والبلاغة، ولذلك نجد عثمان رضي الله عنه قد راعى هذا الجانب في جمعه للقرآن، وقال للجنة الرباعية: "إذا اختلفتم أنتم فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلغتهم" وما ذلك إلا لأن لغة قريش أسهل اللغات وأعذبها وأوضحها وأبينها، وكانت تحتوي على أكثر لغات العرب، ونظراً لكونهم مركز البلاد وإليهم يأوي العباد من أجل الحج أو التجارة، فقد كانوا على علم بمعظم لغات العرب بسبب الاحتكاك والتعامل مع الآخرين، ولكن لغتهم أسهل اللغات كما ذكرت، ينقل السيوطي عن الواسطي قوله: ".... لأن كلام قريش سهل واضح، وكلام العرب وحشي غريب" ولذلك حاول العرب الاقتراب منها، وودوا لو أن ألسنتهم انطبعت عليها حين رأوا هذا القرآن يزيدها حسناً، ويفيض عليها عذوبة، فأقبلوا على القرآن الكريم يستمعون إليه، فقالوا على الرغم من أنفهم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه" ، ولم يزل المسلمون يقبلون عليه ويتلونه حق تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، حتى صاروا بفضل القرآن خير أمة أخرجت للناس، ينطقون لغة واحدة عربهم وعجمهم، وكان بذلك جامعاً للعرب والمسلمين على لغة قريش وما يقاربها، وليس بينهم هذا التفاوت والاختلاف في اللهجات كما كان قبل نزول القرآن، وبذلك دخلوا في مرحلة تاريخية فريدة هي توحد لغتهم وألسنتهم فيما بين بعضهم البعض بل وعلى مر العصور وكر الدهور.‏

4-تحويل اللغة العربية إلى لغة عالمية:

من المعروف أن اللغة هي صورة صادقة لحياة الناطقين بها، والعرب قبل نزول القرآن الكريم، لم يكن لهم شأن ويذكر أو موقع بين الأمم آنذاك حتى تقبل الأمم على تعلم لغتهم، والتعاون معهم فليست لغتهم لغة علم ومعرفة، وكذلك ليس لديهم حضارة أو صناعة، كل ذلك جعل اللغة تقبع في جزيرتها فلا تبرح إلا لتعود إليها.‏

وقد ظلوا كذلك، حتى جاء القرآن الكريم، يحمل أسمى ما تعرف البشرية من مبادئ وتعاليم، فدعا العرب إلى دعوة الآخرين إلى دينهم، ومما لا شك فيه أن أول ما يجب على من يدخل في الإسلام هو تعلم اللغة العربية لإقامة دينه، وصحة عبادته، فأقبل الناس أفواجاً على تعلم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولولا القرآن الكريم لم يكن للغة العربية هذا الانتشار وهذه الشهرة.‏

يقول أ. د. نور الدين عتر: "وقد اتسع انتشار اللغة العربية جداً حتى تغلغلت في الهند والصين وأفغانستان، وحسبنا شاهداً على ذلك ما نعلمه من مشاهير العلماء من تلك البلاد مثل البخاري ومسلم، والنسائي، وابن ماجه القزويني، وغيرهم وغيرهم" .‏

أقول: بل حسبنا ما نراه ونسمعه في مسابقات حفظ القرآن الكريم وتلاوته من أن الفائزين بالدرجات العليا هم من أبناء الجنسيات غير العربية .‏

وخلاصة القول كما يقول الباقوري: "أن اللغة العربية ما كانت تطمع في أن يتعدى سلطانها جزيرتها، فتضرب الذلة على لغات نمت في أحضان الحضارة وترعرعت بين سمع المدينة وبصرها، وتستأثر دونها بالمكان الأسمى في ممالك ما كان العربي يحلم بها، فضلاً عن أن يكون السيد المتصرف فيها، ولكن القرآن الكريم انتزعها من أحضان الصحراء، وأتاح لها ملكاً فسيح الأرجاء، تأخذ منه لألفاظها ومعانيها، وأغراضها وأسلوبها، ما لم تمكنها منه حياته البدوية، فبعد أن كانت ثروتها في حدود بيئتها، أصبحت غنية في كل فنون الحياة فأقبل الناس عليها مدفوعين إلى معرفة أحكام الدين، وأداء واجبات الإسلام" .‏

5-تحويل اللغة العربية إلى لغة تعليمية ذات قواعد منضبطة:

من الثابت المعروف أن العرب قبل نزول القرآن كانوا يجرون في كلامهم وأشعارهم وخطبهم على السليقة، فليس للغتهم تلك القواعد المعروفة الآن، وذلك لعدم الحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من أن التاريخ يحدثنا عن كثير من العلماء الذين صرحوا أن لغتهم استقامت لمّا ذُهب بهم إلى الصحراء لتعلم اللغة العربية النقية التي لم تشبها شائبة، ومن هؤلاء الإمام الشافعي، وأن الوليد بن عبد الملك كان كثير اللحن، لأنه لم يغترف لغته من الينبوع العربي الصحراوي الصافي.‏

ولما اتسعت الفتوح، وانتشر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، احتك العجم بالعرب فأفسدوا عليهم لغتهم، مما اضطر حذيفة بن اليمان الذي كان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، أن يرجع إلى المدينة المنورة ويقول لعثمان رضي الله عنه: "يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى...." فأمر عثمان( يجمع القرآن، وكان قصده أن يجمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي ( وإلغاء ما ليس بقرآن خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد، وهذا ما حصل، فقد ضعفت اللغة مع مرور الأيام وفشا اللحن في قراءة القرآن، الأمر الذي أفزع أبا الأسود الدؤلي وجعله يستجيب‏

لوضع قواعد النحو، التي هي أساس ضبط حركات الحروف والكلمات، ومن ثم العمل على ضبط المصاحف بالشكل حفاظاً على قراءة القرآن من اللحن والخطأ.‏

وليس هذا فحسب، بل يرجع الفضل للقرآن الكريم في أنه حفظ للعرب رسم كلماتهم، وكيفية إملائهم، على حين أن اللغات الأخرى قد اختلف إملاء كلامها، وعدد حروفها.‏

يقول د. عتر: "والسر في ذلك أن رسم القرآن جعل أصلاً للكتابة العربية، ثم تطورت قواعد إملاء العربية بما يتناسب مع مزيد الضبط وتقريب رسم الكلمة من نطقها، فكان للقرآن الكريم الفضل في حفظ رسم الكلمة عن الانفصام عن رسم القدماء" .‏

6-تهذيب ألفاظ اللغة العربية، ونشوء علم البلاغة:

ذكرت فيما سبق أن لغة أية أمّة هي صورة صادقة لذوقها العام وطبيعتها، وإذا كان للبقاع تأثير في الطباع، فمما لا ريب فيه أن اللغة تتأثر كذلك حسب الناطقين بها، والعرب أمّة أكثرها ضارب في الصحراء، لم يتحضر منها إلا القليل، فلا جرم كان في لغتهم الخشن الجاف، والحوشي الغريب، وقد أسلفنا عن الواسطي أن لغة قريش كانت سهلة لمكان حياة التحضر التي كانت تحياها في ذلك.‏

ولعل من يقرأ الأدب الجاهلي ويتدبره، يزداد إيماناً بما للحضارة من أثر ألفاظ اللغة، فإنه سيرى في أدب أهل الوبر كثيراً من مثل "جحيش" و"مستشزرات" "وجحلنجع"، وما إلى ذلك مما ينفر منه الطبع، وينبو عنه السمع، على حين أنه يكاد لا يصادفه من ذلك شيء في أدب القرشيين.‏

والقرآن الكريم –فضلاً عن أنه نقل العرب من جفاء البداوة وخشونتها، إلى لين الحضارة ونعومتها، فنزلوا عن حوشيتهم، وتوخوا العذوبة في ألفاظهم، -قد تخير لألفاظه أجمل ما تخف به نطقاً في الألسن، وقرعاً للأسماع، حتى كأنها الماء سلاسة، والنسيم رقة، والعسل حلاوة، وهو بعد بالمكان الأسمى الذي أدهشهم وحير ألبابهم، وأفهمهم أن البلاغة شيء وراء التنقيب والتقعير، وتخير ما يكد الألسن ويرهقها من الألفاظ، فعكفوا عليه يتدبرونه، وجروا إليه يستمعونه ذلك أن القرآن الكريم قد انتهج في تعابيره أسلوباً له حلاوة، وعليه طلاوة، تنتفي فيه الكلمة انتقاء، حتى كانت مفردات القرآن الكريم من اللغة العربية بمثابة اللباب وغيرها كالقشور، مما جعل ابن خالويه يقول: "أجمع الناس أن اللغة إذا وردت في القرآن فهي أصح مما في غيره" ، ولا أدل على ذلك من المقارنة بين الشعر الجاهلي والإسلامي، أو الأدب الجاهلي والإسلامي، لتجد البون شاسعاً، والفارق كبيراً، ذلك أن القرآن الكريم بفصاحته وروعة ألفاظه قد أغرى العرب على محاكاته، فأقبلوا إليه يزفون، ومن بحره ورياضه يستقون وينهلون، ومن ألفاظ ومعانيه يقتبسون ويتكلمون، فوضعوا بذلك قواعد علوم البلاغة، بغاية الروعة وقمة البراعة، متكئين فيها على ما في القرآن الكريم من أوجه الإعجاز، ناسجين منه أجمل حلة وأحلى طراز، ولهذا نجد أبا الهلال العسكري يقول: "وقد علمنا أن الإنسان إذا أغفل علم البلاغة وأخل بمعرفة الفصاحة، لم يقع علمه بإعجاز القرآن من جهة ما اختصه الله به من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما شحنه به من الإيجاز البديع والاختصار اللطيف، وضمنه من الحلاوة، وجلله من رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، إلى غير ذلك من محاسنه التي عجز عنها، وتحيرت عقولهم فيها" .‏

توصيات‏

1-غرس محبة اللغة العربية في نفوس الناشئة، باعتبار أنها لغة القرآن الكريم، الذي بفضله حفظ لنا لغتنا من الضياع، والبحث عن الوسائل التي ترغب الطلاب في تعلم اللغة العربية، وذلك من خلال تطوير المناهج، وتيسير القواعد.‏

2-بث الوعي اللغوي بين أبناء الأمة وإيقاظ غيرتهم من اللغة، وترميم ما تصدع من ثقتهم بها واعتزازهم بتراثها الحضاري والتاريخي بوصفها مقوماً مهماً من مقومات الشخصية العربية.‏

3-إعادة النظر في طريقة تعليم اللغة العربية في المدارس، والاستفادة من الوسائل الحديثة مثل الحاسوب والبرمجيات التعليمية.‏

4-الاستفادة من تجربة الجامعات السورية في تعريب التعليم في جميع مراحله، وقد أثبتت هذه التجربة نجاحها، وسارت بعض الجامعات في الوطن العربي على غرارها.‏

5-الاهتمام بتعلم اللغات الأجنبية وتطويرها، وعدم الدعوة إلى تهميشها، ولكن ضمن الحد المرسوم لها.‏

6-إنشاء مؤسسات متخصصة ترعى تكوين الأجيال، وتعمل على ترجمة الكتب والبحوث العلمية المختلفة مع التنسيق بين هذه المؤسسات وبين مراكز البحث العلمي والجامعات.‏

7-الاستفادة من أجواء العولمة المنفتحة والمتطورة التي يمكن أن تعين على إيجاد وسائل وآليات تستخدم في صالح اللغة العربية، سواء من حيث نشرها، أو سهولة التواصل بين الباحثين في قضاياها وبالتالي فإن لغتنا العربية كفيلة بما وهبها الله تعالى أن تُواكب المستجدات والتحديات في هذا العصر "عصر العولمة".‏

الخاتمة‏

إننا في هذا العصر الذي يبدو فيه زحف العولمة قادماً بما يحمله إلينا من معطيات تشمل الأدوات والمصطلحات والأفكار والتعبيرات والممارسات اللغوية، مطالبون بأن نقابل ذلك الزحف بتنقيح علمي يفيد من إيجابيات العولمة، ويؤمن بالتلاقح الحضاري والتفاعل الخير، ويدرأ الخطر عن ثقافة أمتّنا ولغتنا بخطط علمية، واستراتيجيات طويلة المدى، ووسائل تفيد من ثمرات العلم الحديث في هذا العصر وتختلف عن وسائلنا التقليدية القديمة، مستندين في ذلك إلى الثقة بأنفسنا، وبمقوماتنا الذاتية النابعة من مبادئ ديننا الإسلامي الحنيف وإسهامات حضارتنا العريقة، وقدرات لغتنا العربية التي سبق لها أن دخلت المعترك الحضاري قديماً فانتصرت فيه، وكانت الوجه المشرق للهوية العربية على مر العصور.‏

وأختم بحثي بأبلغ عبارة قالها البيروني (ت 440ه‍) عن اللغة العربية المقدسة:‏

"والهجو بالعربية أحب إلي من المدح بالفارسية".‏

لقد صدق فيما قال، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف..‏

والحمد لله رب العالمين،،‏

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..‏
 
الدكتور محمد يوسف الشربجي

No comments:

Post a Comment