Friday, March 21, 2014

اللغة العربية والواقع المعاصر



اللغة العربية والواقع المعاصر*
  • الكاتب والمتلقي هما الإنسان العربي وتصل بينهما اللغة العربية، أو ما نعني به المواطنة اللغوية والحرص عليها
  • الضعف اللغوي كان موجوداً في كل العصور، ولكنه يختلف قلة وكثرة، حيث بدأت بوادره في العصر الجاهلي
  • كان لعلماء اللغة وأعلامها من الذين تركوا لغاتهم واتخذوا اللسان العربي باع طويل في خدمة هذه اللغة
  • جانب كبير من نشاطنا في البحث اللغوي مقيد بحصون النحو والصرف في مفهومها المدرسي المحدود
عزيزي القارئ.. بهذا العدد بدأنا عامًا هجريًا جديدًا وهو عام 1435 هـ، بعد أن اختتمنا العام الهجري 1434 هـ، نسأل الله أن يكون شاهدًا لنا لا علينا، كما نسأله تعالى أن يعيده علينا وعلى قرّاء «العربي» والأمة العربية والإسلامية والعالم أجمع باليمن والإيمان والسلامة والأمن والأمان والتوفيق لما يحب ويرضى، وبهذا العدد نحتفل بالعيد الأربعين لذكرى اعتماد اللغة العربية رسميًا في الأمم المتحدة في يوم 18 ديسمبر سنة 1973م، وقد اتخذ هذا اليوم من كل عام كمناسبة لاعتماد اللغة العربية بين لغات العالم في الأمم المتحدة، وتمر هذه الذكرى في عامنا، وقد ظهرت مؤسسات حكومية وأهلية للعناية بها وظهرت مشاريع للمحافظة عليها.
وبهذا العدد ستكمل مجلة العربي عامها الخامس والخمسين، فقد بدأت مسيرتها بعدد ديسمبر 1958م، جعل الله أيامنا كلها أعيادًا ومناسبات سعيدة.
وسيكون لقاؤنا الشهري - إن شاء الله - لقاء أكاديميًا ثقافيًا تحاوريًا حول اللغة العربية - لغتنا الخالدة - في مجلة جميع العرب - مجلة العربي - وآثرت أن يكون افتتاح مقالاتي «اللغة العربية والواقع المعاصر».
ومقالاتنا ستكون حول مجلة العربي التي تربطنا جميعًا، وبها ينشر الكاتب إبداعه أو علمه وثقافته، على هيئة بحث أو مقال أو قصيدة أو قصة أو نص، ويجب ألا تنتهي السلسلة عند القارئ، بل يجب على القارئ أن يكمل السلسلة بتواصله مع المجلة حتى ترتبط السلسلة ولا تنقطع بوصول العمل الثقافي إلى المتلقي، بل يرسل لنا القرّاء بملاحظاتهم وآرائهم حول ما يقرأون، وسنظل نخصص لآراء القرّاء مكانًا أكثر اتساعاً في المجلة نناقش فيه آراءهم، ونعرض ما يجب أن ينشر من مشاركاتهم أو الرد عليها، لتستفيد المجلة من تواصلهم وبالتالي يرد نفع ذلك على الكاتب أو المبدع الذي يغذي لغته العربية التي يكتب بها بروافد شتى فيتطور النص أو المقال، ثم يرجع مرة أخرى إلى القارئ، الذي يغذي المجلة بمشاركاته فتكون السلسلة متكاملة مترابطة هكذا:
وهي عناصر الاتصال الخمسة، فمن أيها بدأنا وصلنا إلى غيرها إلى أن نرجع إليها، فكل حلقة تفيد وتستفيد.
بين الكاتب والمتلقي
فالوسيلة التـــي تجمعنا حولها: هي مجلة العربي، واللغة: هي وســـيلة الاتصال، وهي اللغة العربية الفصحى، واللغة العربية المستخدمة في هـــذا العصـــر، أو ما يسمى باللغة المعاصرة، والكاتـــب: هو المبدع أو المثقف أو الباحث أو الأكاديمـــي أو المتخـــصص العربي، والقارئ المتلقـــي: هو القارئ العربي، وقد أظهر النقــــد الحديث اهـــــتمـــامًا بالقـــــارئ في مذاهب النقد الحديث، حيث وضعوا له الأهمية في مناهج التلقي، والنص: هو المادة العلمية أو الإبداعية أو الثقافية التي تنشرها مجلة العربي على صفحاتها.
فالكاتب والمتلقي هما: الإنسان العربي، وتصل بينهما اللغة العربية، أو ما نعني به المواطنة اللغوية والحرص عليها، مع علمنا بأن لكل عصر لغته ولكل إنسان ما يناسبه من مستوى لغوي، فمنذ نشأة الإنسان الأولى كان للغة دورها الحاسم في تطوّره البيولوجي ونضجه النفسي وارتقائه الحضاري، ولقد يسّر الله تعالى قراءة القرآن على الأمة، فأنزله على سبعة أحرف، كما ورد في صحاح الأخبار.
وقد ذهب أهل العلم في معنى الحديث مذاهب شتى، ومن أقــوالهم، أن المراد بالأحرف السبعة لغات قـــبائل من العرب، وهذا القول هو اختيار القاسم بن سلاّم، وقال ابن الجزري: وأكثر العلمـــاء على أنها لغات، وكان علماء اللغــة يستــــخدمون كلمـــة لغة مكان كلمة لهـــجة، وهذا الوجه في معنى القراءات يجعل للبـــيئة تأثـــيرًا في الإنسان العربي وتأثير لهجــــته على اللغة العربيــــة، وأن البيـــئة تؤثر في لغة الإنسان العربي، ولذلك نرى أن عرب الخليج لهـــم خصائصهم اللهجية في النطق، ولكل بيئة خصائص لغوية أو قوانين صوتية، فنسمع الخصائص اللهجـــــية لدول المغرب العربي، وكـــذلك مصر، وبلاد الشام.. وهكذا، ولكن يربط هؤلاء جميعًا لغة عربية واحدة تجمعــــهم، ولكل بيئة خصائص خاصة بها، متصلة بالإنســــان بيئـــته وثقافته.
وكان من أوائل الذين درسوا قوانين اللهجات المعاصرة، وقعّد لها واهتم بها أستاذي الدكتور/عبدالعزيز مطر - رحمه الله - في كتبه: «خصائص اللهجة الكويتية - دراسة لغوية ميدانية -» الذي نشره في سنة 1969م، وكتاب: «من أســــرار اللهــجة الكويتية» المنشور سنة 1970م، وكتاب: «تأصيلات لغوية في اللهجات الخليجية» وغيرها.
مسيرة مع اللغة والإبداع
ومجلة العربي لها جهودها في المجال اللغوي، وبعـــد طــول مسيرة في العمل الثقافي هي الآن بصدد التحوّل إلى مشروع ثقافي متكامـــل، بتوسّعـــهـــا في إصداراتها، من مطبوعات ملحقـة، ونأمــــل أن يتحقق الحلم إلى واقع، بهــذه المجلة التي بلغت منــــزلة رفيعة عند المثقــــفين والمـــبدعين، منـــذ إنشائها وتـــولى رئاســة تحريرها الدكتور أحمد زكي - رحمه الله - مرورًا بالأستاذ أحمد بهاء الدين - رحمه الله - ثم الدكتور محمد غانم الرميحي، وأخيرًا الدكتور سليمان إبراهيم العسكري، كانت مسيرة عامرة بالخير والثقافة والثراء، ولا ننسى أن نشير في هذه المقدمة إلى جهود بعض مَن كتب مساهمة في مسيرة اللغة العربية.
واللغة العربية ومكانها وأصولها وواقعها المتداول وقضاياها، ووصف واقع الاستعمال اللغوي المعاصر، فيما سنطرح من قضايا ومشكلات، فاللغة هي الخط الفاصل بين الطبيعة والثقافة، إذ تشكّل حيّز التواصل الإنساني عبر القرون، وفي الوقت نفسه تشكّل أساسًا للعمل اللغوي الإبداعي في شتى مجالات الفنون، من قصة أو رواية أو شعر أو نثر أو حكمة أو أمثال، أو غيرها من فنون القول والكتابة، واللغة العربية من أوسع اللغات انتشارًا في العالم، إذ يتحدث باللغة العربية الآن أكثر من 420 مليونًا، من العرب بالإضافة إلى عدد من المناطق المجاورة الأخرى مثل: الأحواز، وتركيا، وبعض الدول الإفريقية المتاخمة للدول العربية مثل: تشاد، ومالي، والسنغال، وأريتريا، والكاميرون، وغانا. بالإضافة إلى اهتمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها باللغة العربية، فهي لغة دين لما يقارب المليار ونصف المليار من البشر على وجه هذه الأرض، إذ لا تصح صلاة المسلمين إلا باللغة العربية فهي لغة القرآن الكريم، واللغة العربية هي إحدى اللغات الرسمية الست في الأمم المتحدة، التي اعتمدت رسميًا في الأمم المتحدة في يوم 18 ديسمبر سنة 1973م، (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة برقم 3190 د-28).
وقد أثرت اللغة العربية في كثير من لغات العالم الإسلامي مثل: التركية والفارسية والأمازيغية والكردية والماليزية والإندونيسية والألبانية، وكذلك بعض اللغات الأوربية مثل: الإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية، وكذلك بعض اللغات الأفريقية مثل: الهاوسا والسواحيلية.. وغيرها.
ثراء بلا حدود
واللغة العربية من أغزر اللغات في مادتها اللغوية، ويكفي أن أذكر مثالاً على ذلك أن معجم لسان العرب لابن منظور (630هـ-711هـ) وهو معجم قد صدر منذ ما يزيد على سبعة القرون، يحتوي على أكثر من 70 ألف مادة لغوية، ومعجم لسان العرب معجم متوسط بالقياس لبعض المعاجم المطوّلة المؤلفة حديثًا مثل تاج العروس للزبيدي (1145هـ-1205هـ)، الذي ألّف منذ أكثر من قرنين من الزمان، وإذا وضعنا العربية في مجال مقارنة مع الإنجليزية مثلا سنجد أن معجم جونسون، (1709-1784م) يحتوي على 42 ألف كلمة فقط، مما يبرز لنا اتساع اللغة العربية ومرونتها وغزارة مادتها، فاللغة عبارة عن موجات متدافقة في نهر جارٍ متدفق من الاستعمالات للألفاظ والتراكيب المحدثة والمعرّبة، وربما نعرض في دراستنا للتقويم أو التصويب في مقام التعليق والمناقشة، وهي محاولة صعبة ولاشك، ولكننا نلتمس العون على مشقة المحاولة التي نبذلها في نبل الغاية التي نهدف إلى تحقيقها، ولاشك في أن انحراف المتكلمين أو الكتّاب عن الأسلوب المعياري، كما تصنّفه المصنّفات العلمية المتخصصة قديم في العربية قدم ظاهرة اللحن نفسها، وكان من أسبق هذه الكتب رسالة للكسائي (المتوفّى عام 170 هـ) سماها: «ما تلحن فيه العامة»، وهي رسالة جمعت مئة مسألة ومسألتين، بتحقيق العلامة عبدالعزيز الميمني، وقد طبعت مرتين بالقاهرة (المطبعة السلفية) بعنوان: ثلاث رسائل، واستمر التأليف في ذلك على مدى العصور التالية إلى العصر الحديث.
ونشير إلى بعض من ألّف في التصويب اللغوي في العصر الحديث مثل: محمد العدناني في معجميه: معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة، ومعجم الأخطاء الشائعة، وصلاح الدين الزعبلاوي في كتابه: معجم أخطاء الكتاب وغيرهما.
ومن الثابت أن الضعف اللغوي كان موجودًا في كل العصور، ولكنه يختلف قلة وكثرة - حيث بدأت بوادره في العصر الجاهلي، ولدينا أبيات من الشعر الجاهلي لا تجيزها قواعد النحو والصرف، وبعضها لا تجيزه القواعد إلا بعد التأويل والتقدير، والإتيان بعلل مصطنعة. وفي صدر الإسلام عاشت العربية سليمة نقية بفضل حرص المسلمين على قراءة القرآن الكريم، والحفاظ على لغته، فكانت اللغة تنطق بالسليقة دون تكلّف. ومن النصوص التي وردت فيها كلمة (اللحن) بمعنى الخطأ في كلام ينسب إلى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان الذي روى عنه: «اللحن في الكلام أقبح من التفتيق في الثوب والجدري في الوجه» وقيل له يومًا: «لقد أسرع إليك الشيب، فقال: شيبني صعود المنابر والخوف من اللحن».
ثم بدأ هذا اللحن يزيد ويستشري جيلاً بعد جيل حتى وصل إلى ما نحن عليه الآن من عاميات دارجة، وكلمات أعجمية تدور على ألسنتنا، ويعدّ التنبيه على ذلك اللحن البداية الحقيقية لتنقية العربية من التحريف وإنقاذها من التشويه، واتسع التنبيه مع اتساع دائرة الخطأ في اللغة. وأثمر ذلك في وجود مؤلفات عدة من أجل التصحيح اللغوي قديمًا وحديثًا، وساعدت إلى حد كبير في ضبط اللغة نصًا وقاعدة، وفي تقويم الانحراف لفظًا ودلالة.
جهود اللغويين
وقد بذل اللغويون القدماء والمحدثون مجهودات مشكورة في تتبع هذه التغيرات، وبيان مدى مخالفتها للقواعد المستقرة، وتمثل هذه الجهود بطبيعة الحال ثروة وافرة، نحاول أن نستعين بها في تحقيق الغاية، بل إنها تمثل أحد أوجه الخلاف الأساسية بين الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، وسنعرض لها بشيء من التفصيل في موضعها.
وتعقّب ظواهر اللغة العربية وتطورها، منذ كانت لغة لقوم يعيشون في قلب الجزيرة العربية، إلى أن أضحت لسان حضارة وثقافة وأداة لكثير من شعوب الأرض التي دخلت في الإسلام، وعشقت لغة القرآن الكريم، وكان لعلماء اللغة وأعلامها من الذين تركوا لغاتهم واتخذوا اللسان العربي باع طويل في خدمة هذه اللغة من الجهود - ما لا يقل بحال من الأحوال - عن جهود أبنائها الخلص، بل ربما فاق جهود أبنائها الخلص في كثير من المجالات والأحوال بخاصة في مسائل التصويب اللغوي والحكم على قضايا اللغة المختلف فيها.
وقد وقف علماء اللغة القدماء عصر الاحتجاج باللغة عند زمان بعينه، ولهذا التحديد أثره في غياب ثروة هائلة من الاستعمالات اللغوية عن التسجيل، واستبعادها من المدوّنات والمسموعات والمصادر إلا نتفًا وشواهد شاردة نلتمسها في كتب التصويب اللغوي التي عالجت لحن العامة وأوهام الخاصة(1).
وعند التنقيب عن الشواهد والمصادر، في محاولة لإعادة رسم صورة علمية دقيقة لحياة العربية منذ أقدم حقبها المعروفة، وحتى صورتها الحية المعيشة في هذا العصر(2)، نجد جانبًا كبيرًا من نشاطنا في البحث اللغوي منصرفًا عن هذه المنجزات، ومقيدًا بحصون النحو والصرف في مفهومها المدرسي المحدود، بينما تجري اللغة وتتغلغل في مناشط الحياة كافة، وتقنن عقول الدارسين عن كثير مما هو مهم، وخطير وحاد في الدراسات اللغوية المعاصرة، وأعمق حضارات الشعوب تسجلها اللغة وتصبح ذات شأن ثقافي مؤثر، كالحضارة العربية الإسلامية، ومثال لذلك هذا الكم الهائل من الشعر العربي الذي سجل تاريخ بناء الحضارة والثقافة. والقرآن الكريم الذي حافظ على العربية عبر هذا الزمن الطويل من التحول والانحراف.
-----------------------------------------
(1) من هذه الكتب لحن العامة في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة. تأليف الدكتور عبدالعزيز مطر، وكتاب: تقويم اللسان لابن الجوزي، كتاب تثقيف اللسان وتنقيح الجنان - تحقيق الدكتور عبدالعزيز مطر، وكتاب ما تلحن فيه العامة للكسائي - تحقيق د. رمضان عبدالتواب، وكتاب لحن العامة والتطور اللغوي للدكتور رمضان عبدالتواب، وكتاب أزاهير الفصحى في دقائق اللغة لعباس أبوالسعود، وكتاب معجم الأخطاء الشائعة لمحمد العدناني، والجاسوس على القاموس لفارس الشدياق.. وغيرها من كتب التصويب اللغوي.
(2) أثر الدخيل على العربية الفصحى في عصر الاحتجاج: د. مسعود بوبو ص64.
1 نقلاً من د. رمضان عبدالتواب، د. محمد الزغبي، المصادر اللغوية، القاهرة، د.ت، ص41-42 د.ت.
2 نفسه ص 41-42 د.ت

--------------------------------------------------
* ليلى خلف السبعان كاتبة وأكاديمية من الكويت.. أستاذ مساعد، قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة الكويت.  نشرت هذه المقالة فى مجلة العربي - العدد 661 - 2013/12 - حديث الشهر -

No comments:

Post a Comment