أسواق العرب في الجاهلية
أسواقهم هي
تجمعات تجارية واجتماعية وثقافية كانت تُعقد في أماكن مختلفة من شبه الجزيرة
بطريقة دورية، ويأتيها العرب من كل الأرجاء فيتاجرون ويسمعون المواعظ والخطب
ويتنافرون ويتفاخرون ويسعون في فك أسراهم عند القبائل الأخرى، كما كانوا يتناشدون
الشعر ويتحاكم مبدعوه إلى كبارهم؛ كالنابغة الذبياني، الذي كانت تضرب له قبة حمراء
من أدم فيحكم بين الشعراء، وتكون كلمته هي الفاصلة، وكانت القصائد التي تحوز إعجاب
هؤلاء المحكمين تطير في أرجاء الجزيرة ويتناشدها العرب في كل مكان، كما كان للعرب
حكام يرجعون إليهم في أمورهم الأخرى ويتحاكمون أمامهم في منافراتهم ومواريثهم
ومياههم ودمائهم؛ لأنه لم يكن لهم دين يرجعون إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف
والصدق والأمانة والرئاسة والسن والمجد والتجربة، ومنهم أكثم بن صيفي وحاجب بن
زرارة والأقرع بن حابس وعامر بن الظَّرب وعبدالمطلب وأبو طالب وصفوان بن أمية
وغيرهم.
وكان في نساء
العرب أيام الجاهلية أيضًا حاكماتٌ اشتهرن بإصابة الحكم وفصل الخصومات وحسن الرأي،
منهن صُحر بنت لقمان، وابنة الخس، وجمعة بنت حابس الإيادي، وخصيلة بنت عامر بن
الظَّرب العدواني، وحذام بنت الريان. وقد عرفت الجزيرة العربية عددًا غير قليل من
تلك الأسواق الموسمية؛ إذ بلغت أكثر من عشرين سوقًا. من أهمها:
§ سوق دومة الجندل، وكانت تقع عند التقاء عدد من الطرق المهمة بين العراق والشام وجزيرة
العرب، وموسمها شهر ربيع الأول إلى نصفه، وموقعها مدينة الجوف الحالية.
§ سوق المشقر، والمشقر حصن بالبحرين قرب مدينة هجر، وتعقد سوقه في جمادى الآخرة،
§ سوق هجر من أرض البحرين، وهي سوق التمر الذي يُضرب به المثل فيقال: "كجالب التمر إلى
هجر"، وكانت تعقد في ربيع الآخر،
§ سوق عُمان، وكانت تقصدها العرب بعد الفراغ من هجر، ويقيمون بها حتى آخر جُمادى
الأولى، وتجتمع فيها تجارة الهند وفارس والحبشة والعرب،
§ سوق حُباشة، وهي سوق تهامة القديمة، وكانت تُقام في رجب، وقد ورد أن الرسول دخل
إليها بتجارة السيدة خديجة رضي الله عنها ذات مرة هو وغلامها ميسرة أيام أن كان
يشتغل عندها قبل البعثة فربحَا ربحًا حسنًا،
§ سوق صُحار، وهي مدينة عمانية تقع على البحر، وكانت سوقها تعقد في رجب،
§ سوق الشِّحْر على الساحل الجنوبي بين عدن وعمان، وكانت سوقًا لتجارة البحر والبر، وتعقد في منتصف
شعبان،
§ سوق عدن، وينتقل إليها العرب بعد انتهائهم من سوق الشحر، وتقام في الأيام
العشر الأوائل من رمضان،
§ سوق صنعاء، وتستمر من منتصف رمضان إلى آخره،
§ سوق حضرموت، وكان انعقادها في منتصف ذي القعدة، وربما أقيمت هي وعُكاظ في يوم
واحد، فيتوجه بعضهم إلى هذه، وبعضهم إلى تلك.
أما أشهر هذه الأسواق على
الإطلاق فثلاثة، هي:
1.
سوق عكاظ، وكان مكانها بين مكة والطائف، وإن كانت إلى الطائف أقرب، وكانت تستمر
عشرين يومًا، من أول ذي القعدة إلى العشرين منه، وهي أشهر أسواق العرب وأعظمها
شأنًا، ولم تكن عكاظ سوقًا تجارية فحسب، بل كانت أيضًا سوقًا أدبية يجتمع فيها
الشعراء من كل ناحية، ولهم محكمون كالنابغة الذبياني تُضرب لهم القباب، وقولهم في
الشعر والأدب لا يُرد، كما كانت كذلك مكانًا لأصحاب الدعوات الإصلاحية، مثل: قُس
بن ساعدة الإيادي، الذي كان يخطب في الناس ويذكرهم بعظمة الخالق.
وورد أن الرسول
رأى قُسًّا في تلك السوق على جمل أحمر، ومن خطبائها المشهورين أيضًا سحبان وائل،
الذي ضرب به المثل، فقيل: "أخطب من سحبان"، ويقال: إنه إذا خطب سيل عرقًا، ولا يعيد كلمة، ولا يتوقف ولا
يقعد حتى ينتهي من كلامه، وكان الخطباء يخطبون وعليهم العمائم، وبأيديهم العصا،
واقفين على مرتفع من الأرض. وهي سوق عامة ليس فيها رسوم، وكانت تحضرها قريش وخزاعة
وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أحياء العرب يؤمونها من العراق والبحرين
واليمامة وعمان واليمن وغيرها.
عكاظ، أهم أسواق العرب كلها: لقد كانت تقع في الجنوب الشرقي
من مكة، وعلى بعد عشرة أميال من الطائف ونحو ثلاثين ميلًا من مكة في وادٍ فسيح فيه
نخيل وأعشاب وماء، وتكمن أهميتها في وقوع الحج بعدها مباشرة وفي قربها كذلك من
مكة، فمن أراد الحج من العرب سَهُل عليه أن يجمع بين الغرض التجاري والاجتماعي
بغشيانه سوق عكاظ وبين الغرض الديني بالحج، كما كانت تنعقد في شهر من الأشهر الحرم
لا تقرع الأسنة فيه حتى ليلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يزعجه؛ تعظيمًا له، وفي
انعقاد السوق في الشهر الحرام مزية واضحة، وهي أن يأمن التجار فيه على أرواحهم
وأموالهم، وكان يأتي إلى عكاظ قبائل قريش وهوازن وغطفان والأحابيش وطوائف من أفناء
العرب، فتنزل كل قبيلة في مكان خاص بها.
2.
سوق مجنة، وتعقد بأسفل مكة بمر الظهران، وكان الناس يقبلون إليها بعد عكاظ
ويقيمون بها الليالي العشر أو العشرين المتبقية من ذي القعدة حتى يروا هلال ذي
الحجة فينتقلوا إلى ذي المجاز للحج، حتى كانت قريش وغيرها من العرب تقول: "لا تحضروا سوق
عكاظ ومجنة وذي المجاز إلا محرمين بالحج".
3.
سوق ذي المجاز، وهي على مسافة ثلاثة أميال من عرفات بناحية جبل كبكب، أو كانت تعقد
بمنى بين مكة وعرفات، فينصرف الناس من سوق مجنة إليها، ويقيمون بها حتى اليوم
الثامن ذلك الشهر، وهو يوم التروية، وهذه السوق تتلو عكاظ في الأهمية، وكانت تؤمها
وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق الأخرى أو لم يشهدها، ويجري فيها ما
يجري في غيرها من البيع والشراء وتناشد الأشعار والمفاخرة والمفاداة، ورُوي أن
الرسول عليه السلام كان يؤمها لبث دعوته إلى الإسلام، وكان للأسواق دور كبير في
التقريب بين قبائل العرب لغة وأدبًا، فضلًا عما كانت تحدثه من انتعاش اقتصادي
بينهم.
الوظائف الاجتماعية لسوق عكاظ
سوق عكاظ كان له وظائف اجتماعية مهمة
في العصر الجاهلي والإسلامي المبكر. كان السوق ملتقى للأدب والشعر والتجارة،
وساهم في توحيد القبائل العربية وتعزيز الروابط الاجتماعية بينها.
1. الدعوة والوعظ :
ومن كان داعيًا
إلى إصلاح اجتماعي أو ديني وجد فرصته في عكاظ؛ حيث تجتمع القبائل من أنحاء الجزيرة
كلها، وكثيرًا ما وقف قُس بن ساعدة بسوق عكاظ يعظ ويخطب على جمل له، فيرغِّب
ويرهِّب، ويحذِّر وينذِر. وعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم اتجه إلى دعوة
الناس بعكاظ؛ لأنها مجمع القبائل؛ إذ كانت قبائل العرب على اختلافها من قحطانيين
وعدنانيين تنزل بها.
2. تجمع تجاري واقتصادي:
كان السوق
مكانًا لتبادل السلع والبضائع بين القبائل المختلفة، مما ساهم في تنشيط الحركة
التجارية والاقتصادية في المنطقة.
3. توطيد العلاقات الاجتماعية:
وكان ذلك
الاجتماع في عكاظ وسيلة من وسائل تفاهم القبائل وتعزيز الروابط الاجتماعية وتقارب
اللهجات بينها. وأخذ العرب بعضهم من بعض ما يرون أنه أليق بهم وأنسب لهم، كما كان
التجار من البلدان المتمدنة كالشام ومصر والعراق يطلعون العرب على أشياء من أحوال
تلك الأمم الاجتماعية.
4. تبادل للأخبار والمعلومات:
كان السوق
بمثابة منبر للأخبار والأحداث، حيث كان الناس يتناقلون الأخبار والمعلومات من
مختلف المناطق.
5. مكان للتحكيم وحل النزاعات:
كان بعض الحكماء
والقضاة يجتمعون في السوق للفصل في النزاعات بين القبائل وتقديم المشورة.
6. مكان للتنافس والتفاخر:
كان السوق يشهد
منافسات في الشعر والخطابة، مما يعزز التنافس الإيجابي بين الأفراد
والقبائل.
7. إبراز القيم والأخلاق العربية:
كان سوق عكاظ
يعكس قيم الكرم والشجاعة والفروسية التي كانت تتصف بها القبائل العربية.
8. السياسة:
كانت الأسواق
أماكن لعقد الاتفاقيات والتحالفات بين القبائل.
9. ملتقى ثقافي وأدبي:
وفوق هذا كانت
عكاظ معرضًا للبلاغة ومدرسة يُلقى فيها الشعر والخطب أمام الجمهور؛ إذ كانت بها
منابر يقوم عليها الخطيب فيعدد مآثره وأيام قومه من عام إلى عام. وكانت كل قبيلة
تنزل في مكان خاص بها، ثم تتلاقى أفراد القبائل عند البيع والشراء أو في الحلقات
المختلفة أو عند شجرة أو حول خطيب يخطب على منبر أو في قباب تقام هنا وهناك. وكان
أشراف القبائل يتوافدون بالأسواق مع التجار؛ لأن الملوك كانوا يخصون كل شريف بسهم
من الأرباح، فكان شريف كل بلد يحضر سوق بلده، إلا عكاظ؛ فإنهم يتوافون بها من كل مكان.
10.
تأثير في الإسلام:
استمر سوق عكاظ
في عهد الإسلام، حيث لعب دورًا في نشر الإسلام وتقديم تعاليمه، كما استمر في كونه
ملتقى ثقافيًا واجتماعيًا. باختصار، كان سوق عكاظ أكثر من مجرد سوق تجاري، بل
كان ملتقى اجتماعيًا وثقافيًا هامًا ساهم في توحيد العرب وتطوير ثقافتهم ونسيجهم
الاجتماعي.
{T{